مقالة اليقين الرياضي

مقالة حول اليقين الرياضي

مقالة جدلية حول اليقين الرياضي
اليقين الرياضي

الأسئلة:

هل نتائج الرياضيات مطلقة أم نسبية ؟

هل اليقين الرياضي مطلق أم نسبي ؟

هل نتائج الرياضيات واحدة ثابتة أم متعددة متغيرة ؟

إذا كانت الرياضيات علما مجردا، فهل نتائجها مطلقة ؟

مقالة جدلية اليقين الرياضي

طرح المشكلة:

تعتبر الرياضيات من أول العلوم نشأة، ومن أقدمها في تاريخ المعارف الإنسانية، فهي علم يهتم بدراسة المقادير الكمية القابلة للقياس بنوعيها الكم المتصل وميدانه علم الهندسة، والكم المنفصل وميدانه علم الجبر، لكن اختلاف الفلاسفة والمفكرين والعلماء كان حول مشكلة طبيعة نتائجها، حيث انقسموا إلى فريقين: 

  • فريق يرى بأن نتائج الرياضيات مطلقة
  • وفريق أخر أكد بأنها نسبية

انطلاقا من هذا الجدل والاختلاف في الآراء نطرح الإشكال التالي: هل اليقين الرياضي مطلق أم نسبي؟ بعبارة أخرى هل نتائج الرياضيات مطلقة أم نسبية؟

محاولة حل المشكلة:

الأطروحة: نتائج الرياضيات مطلقة

عرض الأطروحة: يرى أنصار هذه الأطروحة أن نتائج الرياضيات مطلقة هذا ما أكد عليه كل من أفلاطون وديكارت وكانط ومسلمتهم في ذلك أن الرياضيات تعبر عن المطلقية؛ لأن نتائجها تتصف بأنها قطعية وتعبر عن اليقين والدقة والوضوح وما يثبت دقة نتائج الرياضيات وصدقها المطلق هو طبيعة موضوعها الأقل تركيا والموصوف بالمجرد، والحقيقة كلما كانت أقرب إلى العقل كانت أقرب إلى اليقين، بالإضافة إلى أن الرياضيات تقوم على المنهج الاستنتاجي الذي يقتضي تطابق الفكر مع نفسه، وانسجام النتائج مع المقدمات، ولا شك أن الطبيعة المزدوجة للبرهان الرياضي، مثل التحميل والتركيب هي التي جعلتها أكثر دقة من العلوم الأخرى. قال برغسون: " إن العلم الحديث الرياضيات"، كما قال أيضا: "إن الرياضيات هي اللغة التي يجب أن تتحدث بها جميع العلوم".

يقوم التفكير الرياضي على مجموعة من المبادئ، يستعين بها الرياضي للوصول إلى نتائج تتصف هذه الأخيرة بالدقة والشمولية والكلية لذلك من غير الممكن إنكارها وتتمثل في البديهيات التي هي قضايا واضحة بذاتها، لا تحتاج إلى برهان لإثبات صحتها، فهي قضايا أولية يصدق بها العقل مباشرة، مثل الكل أكبر من الجزء، قال ديكارت: "لا نصدق إلا ما هو بديهي"، كما يقول إقليدس: "لا شيء أوضح من البديهيات الرياضية". أما المسلمات فهي قضايا ليست واضحة بذاتها ولكننا نلجأ إلى التسليم بصحتها، ومن أشهر المسلمات المتوازيان لا يلتقيان أبدا، قال كانط: "إن أوثق ما نعرفه عن العالم هندسة إقليدس، وفيزياء نيوتن". كما يمكن للرياضي أن يعتمد على التعريفات وهي قضايا رياضية يتم من خلالها تحديد ماهية المفهوم الرياضي ولما كانت هذه المبادئ صحيحة كانت النتائج المترتبة عنها بالضرورة صحيحة قال كانط: "إن الرياضيات تنفرد وحدها في امتلاك التعريفات، ولا يمكن أبدا أن تخطئ".

الدليل على دقة النتائج الرياضية هو أن ما من علم يريد تحقيق الدقة العلمية، إلا واستعان بالرياضيات وفي تاريخ العلم أمثلة كثيرة، فما كان للبيولوجيا أن تصبح علما إلا عندما أدخل العلم مندل الإحصاء في علم الوراثة، كما أن دقة الرياضيات يرتبط كذلك بلغتها الرمزية الدقيقة، ومن الناحية التاريخية فإن الرياضيات الإقليدية ظلت على مبدأ الثبات فالمثلث هو مضلع مجموع زواياه تساوى 180° وكان هذا المفهوم واحدا لدى جميع الرياضيين وبالتالي بقيت في المطلق مسيطرة زمنية طويلة جدا، قال ديكارت: "إن هندسة إقليدس تمثل اليقين الرياضي، الذي لا يمكن نقضه".

ربط الفيلسوف اليوناني أفلاطون المفاهيم الرياضية بعالم المثل، وهو عالم المعقولات الذي يتميز بالكلية والثبات والموضوعية واليقين والمطلقية عكس تلك المفاهيم المرتبطة بعالم المحسوسات التي تتميز بالجزئية والتغير النسبية.

هذا ما أكد عليه الفيلسوف الفرنسي ديكارت عندما اعتبر الرياضيات مثال للبداهة والوضوح، وصورة من صور العقل المبدع الخلاق الذي ولد مجهزًا بهذه المفاهيم التي لا تعرف الخطأ إطلاقًا، قال ديكارت: "إنها أفكار فطرية لا يخشى منها ضرر؛ لأنها لا تؤدي إلى الخطأ إطلاقًا". كما جعل الفيلسوف الألماني كانط الحقيقة الرياضية عقلية واعتبر أن أكبر مفاهيمها وهو المكان معطى عقلي. وعليه كانت الرياضيات كتفكير مجرد هي صناعة صحيحة ويقينية ونتائجها مطلقة وثابتة وضرورية في كل زمان ومكان.

النقد: حقيقة أن فكرة المطلق قد تبدو مسيطرة على الرياضيات الإقليدية لكن: ظهور الهندسات المعاصرة وتعددها يوحي بأن الرياضيات تمتاز بالنسبية والاحتمال ضف إلى أن ارتباطها بالواقع المادي المحسوس أفقدها يقينها لهذا اعتبر اينشتاين هندسة إقليدس تجريبية.

نقيض الأطروحة: نتائج الرياضيات نسبية

عرض نقيض الأطروحة: وعلى النقيض من ذلك، يرى أنصار هذه الأطروحة أن نتائج الرياضيات نسبية وليست مطلقة، هذا ما أكد عليه كل من روبير بلانشي، وبوليغان، وراسل، بالإضافة إلى عالم الرياضيات الألماني ريمان، والروسي لوباتشيفسكي منطلقًا من مسلمات عديدة أهمها أن الحقائق الرياضية المتصفة باليقين والصدق عندما تنزل إلى التطبيقات التجريبية تفقد دقتها وتقع في التقريبات وما يثبت نسبية النتائج الرياضية هو ظهور وتعدد الأنساق الرياضية "الأكسيوماتيكية" جعل الرياضيات تقع في الأخطاء، هذا ما أكد عليه بوليغان حين قال: "إن كثرة الأنظمة في الهندسة، دليل على أن الرياضيات ليست فيها حقائق مطلقة". 

هذا التعدد تجلى من خلال نسق العالم الرياضي الروسي لوباتشيفسكي، ففي سنة 1830 تصور مكانا أخر يختلف عن مكان إقليدس وهو المكان المقعر أي الكرة من الداخل، وفي هذه الحالة يمكن الحصول على هندسة جديدة تختلف عن هندسة إقليدس أي من خلال هذا المكان، أعلن لوباتشيفسكي أنه بإمكاننا أن نرسم متوازيات كثيرة، من نقطة خارج المستقيم والمثلث تصير مجموع زواياه أقل من 180°.

فيما افترض عالم الرياضيات الألماني ريمان في سنة 1854 أن المكان محدب أي الكرة من الخارج واستنتج بناءً على ذلك هندسة جديدة يرى أنه لا يمكن رسم أي موازي من نقطة خارج المستقيم، كما أن مجموع زوايا المثلث أكبر من 180°، قال الفيلسوف الإنجليزي راسل: "إن الرياضي المعاصر يشبه خياط الملابس، يخيط بدلات لا يعرف أصحابها".

حطم جورج كانتور فكرة البداهة التي كانت تُعد معيار لليقين الرياضي الكلاسيكي، وذلك من خلال نظريته في المجموعات التي أثبت بها أن الجزء يمكن أن يساوي أو يكبر الكل، وانتقد روبير بلانشي المبادئ الثلاثة للهندسة الإقليدية، حيث أكد بأن التعريفات هي لغوية لا علاقة لها بالحقيقة الرياضية، ولا يمكن الحكم عليها بأنها صادقة أو كاذبة؛ لأنها تصف المكان الهندسي كما هو موجود حسيًا في الواقع وهي بذلك تشبه التعريفات في العلوم الطبيعية.

كما انتقد روبير بلانشي من خلال كتابه: "الأكسيوماتيك"، فكرة البداهة "الكل أكبر من الجزء"، واعتبرها خاطئة، فالبديهيات قضايا يجب البرهنة على صحتها وإذا لم نتمكن من ذلك وجب اعتبارها مسلمة، أما المسلمات فعدم البرهنة عليها تسليم بالعجز، من هنا اعتبر روبير بلانشي أن أنسب مبدأ للرياضيات هو مبدأ الفرضيات. إذ يقول: "لم تعد الرياضيات اليوم تتحدث عن المنطلقات الرياضية، باعتبارها مبادئ بديهية؛ لأنها في الحقيقة مجرد افتراضات نابعة من اختيار العقل الرياضي الحر". واعتبر ادموند هوسرل من خلال كتابه "تأملات ديكارتية" أن تطور العلم حطم فكرة البداهة التي قامت عليها الهندسة الإقليدية.

بالإضافة إلى أن الرموز الرياضية المعتمدة في حساب المسافات تقريبية، كما أن غزو الرياضيات للعلوم الإنسانية والمادية أدى إلى ظهور الرياضيات التطبيقية والاحتمالات الشرطية، مما أوقعها في التقريبات وفي الأخطاء وأصبح معيار اليقين هو توافق النتائج مع المقدمات. قال راسل: "إن الرياضيات هي العلم الذي لا يعرف عما يتحدث وإذا ما كان يتحدث عنه صحيحًا". وعليه فنتائج الرياضيات ليست مطلقة بل نسبية.

النقد : حقيقة أن الرياضيات تمتاز بالاحتمالية والنسبية لكن هذا لا يدفعنا إلى الشك في قيمتها، فـ تعدد الأنساق في الهندسة دليل على ليونة علم الرياضيات وخصوبته، وتطوره في عالم التجريد كما أن تحطيم الفكرة البداهة لا يعد تحطيما لقيمة ومطلقية الرياضيات؛ بل هو تجاهل لقيمة مبادئ العقل الفطرية، ومادامت تلك المبادئ صادقة بتغير الزمان والمكان فمن غير المعقول تحطيم فكرة البداهة، كما أن الرياضيات إذا تمت مقارنتها بالعلوم الأخرى فهي تحتل الريادة في مجال اليقين، بدليل حاجة العلوم إلى الرياضيات.

التركيب: مما سبق عرضه يمكننا القول بأن نتائج الرياضيات ليست مطلقة دائمًا، فهي يقينية، أي مطلقة من حيث المنهج وأساليب البرهنة وهذا الصدق يفرضه انسجام المقدمات مع النتائج، وهي نسبية من حيث النتائج ثانية، حيث نجد نتائج الرياضيات مطلقة إذا نظرنا إليها من زاوية الهندسة الإقليدية، ونسبية إذا نظرنا إليها من زاوية الأنساق الأكسيوماتيكية "الهندسات اللاإقليدية".

حل المشكلة: ختامًا، يُمكن القول بأن الرياضيات بموضوعها ومنهجها ولغتها، تبقى تحتل النموذج الأرقى الذي بلغته العلوم، دقة ويقينا، فهي مطلقة ويقينية داخل نسقها، ونسبية ومتغيرة خارجه. 

- اقرأ أيضًا: مقالة مقارنة بين الرياضيات الكلاسيكية والمعاصرة

- ذات صلة: مقالة مقارنة بين العلم والفلسفة

مشاركة WhatsApp

المنشورات ذات الصلة