مقارنة بين المنطق الصوري والمنطق المادي

قارن بين المنطق الصوري والمنطق المادي

مقارنة بين المنطق الصوري والمنطق المادي
المنطق

مقالة مقارنة بين المنطق الصوري والمنطق المادي

نص السؤال: ما الفرق بين المنطق الصوري والمنطق المادي؟

طرح المشكلة:

الإنسان كائن عاقل ميزه الله بالعقل عن سائر الكائنات، لذلك فهو يستخدمه كآلية للتفكير واكتساب المعرفة وإدراك حقيقته وحقيقة هذا الوجود الذي هو جزء منه، معتمدًا في ذلك على نظام دقيق ومحكم يضبطه ويوجهه وهو المنطق الذي ينقسم بدوره إلى قسمين منطق صوري ومنطق مادي، ولكن كثيرًا ما يخلط الناس بين هذين المصطلحين ولرفع الالتباس والغموض عن طبيعة العلاقة بينهما حق لنا أن نطرح التساؤل التالي: ما هي طبيعة العلاقة بين المنطق الصوري والمنطق المادي؟ هل الاختلاف بين المنطق الصوري والمنطق المادي ينفي وجود تقارب بينهما.


محاولة حل المشكلة:

أوجه الاختلاف بين المنطق الصوري والمنطق المادي

المنطق الصوري والمنطق المادي هما نوعان من المنطق يختلفان في عدة جوانب. فيما يلي أوجه الاختلاف بينهما: يختلف المنطق الصوري عن المنطق المادي من حيث التعريف، فالمنطق الصوري يعرفه الفارابي بقوله: "هو الصناعة التي تعطي بالجملة القوانين التي من شأنها أن تقوم العقل وتسدده نحو الصواب ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات"، وبالتالي يمكن القول أنه مجموعة من القواعد والقوانين التي تعصم الفكر من الوقوع في الأخطاء، أما المنطق المادي الذي يعرف أيضا بالمنطق الاستقرائي فهو جملة من القواعد والقوانين التي تهدف إلى تفسير الظواهر ومعرفة العلاقات القائمة بينها، وبتعبير آخر فالمنطق المادي هو محاولة لتفسير الظواهر كما هي في الواقع.

ضف إلى ذلك فالمنطق الصوري يختلف عن المادي من حيث الموضوع، فموضوعات المنطق الصوري محصورة في ثلاث مباحث أساسية هي مبحث الحدود والتصورات الذي يبحث في الألفاظ ومدلولاتها وكيفية ضبطها من حيث التعريف، ومبحث القضايا والأحكام الذي يبحث في مكونات الجمل وأحكامها، بالإضافة إلى آخر مبحث وهو مبحث الاستدلالات الذي يُعنى بالبحث في الحجج والأقيسة، في حين أن موضوعات المنطق المادي تختلف تمامًا عن موضوعات المنطق الصوري باعتبار أنه يُعنى بدراسة الظواهر الطبيعية وتفسيراتها وفهمها فهمًا دقيقًا، وبالتالي تفسيرها تفسيرًا سببيًا من خلال ربطها بأسبابها الحقيقية التي أدت إلى حدوثها، مثل ظواهر المادة الجامدة كالزلازل والكسوف، والمادة الحية كالتنفس والتغذية وغيرها.

أما من حيث المنهج فإن المنطق الصوري يختلف عن المنطق المادي، وهذا راجع إلى طبيعة الموضوعات التي يعالجها كل واحد منهما، فمنهج المنطق الصوري عقلي استنتاجي يقوم على انتقال العقل أثناء التفكير والاستدلال من العام إلى الخاص ومن الكل إلى الجزء، وهذا ما يجسده القياس باعتباره شكلا من أشكال الاستدلال في المنطق الصوري، كقولنا مثلا: "كل فيلسوف حكيم - سقراط فيلسوف سقراط حكيم"، أما المنطق المادي فيختلف عن المنطق الصوري باعتباره يعتمد على منهج استقرائي ينتقل فيه من الخاص إلى العام ومن الجزء إلى الكل، كقولنا مثلا: "الحديد معدن يتمدد بالحرارة. النحاس معدن يتمدد بالحرارة. كل المعادن متمددة بالحرارة"، وقد بين برتراند راسل طبيعة هذا الاختلاف بينهما بقوله: "يعرف الاستقراء بأنه سلوك فكري يسير من الخاص إلى العام، في حين أن الاستنتاج هو السلوك الفكري العكسي الذي يذهب من العام إلى الخاص".

كما يمكننا القول أيضا أن كلا المنطقين يختلفان من حيث المبادئ، فالمنطق الصوري يعتمد على مبدأ الهوية الذي يراد به أن الشيء يبقى كما هو مهما طرأ عليه من تغيرات؛ لأن حقيقة الشيء قائمة على صفاته الجوهرية، بالإضافة إلى مبدأ عدم التناقض الذي يؤكد استحالة الجمع بين المتناقضين في الآن نفسه، ومبدأ الثالث المرفوع ومعناه أنه لا وسط بين متناقضين، في حين أن مبادئ المنطق المادي تتمثل في مبدأ السببية ومعناه أن لكل ظاهرة سبب، ومبدأ الحتمية أي أن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج، ومبدأ اطراد الظواهر ومعناه أن الظواهر تحدث وفق وتيرة منتظمة وأن كل ظاهرة سبب للظاهرة التي بعدها ونتيجة للتي قبلها.

كما يختلفان أيضا من حيث الهدف، فالمنطق الصوري يهدف إلى انطباق الفكر مع نفسه، أي مدى توافق المقدمات مع النتائج، وبالتالي الوصول إلى الانسجام والضبط والدقة العقلية، وهذا ما جعله منطقًا مغرقًا في التجريد فكانت الرياضيات أكبر مجال يعبر عنه، في حين أن المنطق المادي يهدف إلى انطباق الفكر مع الواقع وبالتالي الوصول إلى أفكار جديدة معتمدًا في ذلك على خطوات المنهج التجريبي وهذا ما جعله منطلقًا للعلم التجريبي فكانت الفيزياء والكيمياء أكبر مجال يعبر عنه.

أوجه التشابه بين المنطق الصوري والمنطق المادي

لكن هذا الاختلاف بين المنطق الصوري والمنطق المادي لا يعني عدم وجود نقاط اتفاق وتشابه بينهما، إذ يمكن تحديد أوجه الاتفاق والتشابه بينهما في أن: كلاهما يعتبر وجها من أوجه الإبداع الإنساني الذي سعى إلى إيجاد آليات تضمن له بناءً فكريًا بعيدًا عن الأخطاء، وبالتالي هما حصيلة جهد عقلي يبدله الإنسان محاولًا ضبط الفكر وتوجيهه لفهم الظواهر المحيطة به.

ضف إلى ذلك فكل من المنطق الصوري والمنطق المادي يسعيان لتحصيل المعرفة سواء بالعقل أو التجربة، ما يعني أنهما يهدفان معا إلى البحث عن الحقيقة، وبالتالي يُعدان معا منطلقًا للعلوم، فالمنطق الصوري كان منطلقًا للعلم منذ ظهوره إلى غاية العصر الحديث، وبالتالي فقد كان ركيزة للعلم لأكثر من عشرين قرنًا، ليظهر بعدها المنطق المادي في العصر الحديث ليكون منطلقًا لبعض العلوم الأخرى، فارتبط المنطق المادي حاليًا بالعلوم التجريبية كالفيزياء والكيمياء، وارتبط المنطق الصوري بالعلوم العقلية كالرياضيات، وهذا ما عبر عنه راسل بقوله: "المنطق يمثل شباب الرياضيات".

كما يمكن القول أنهما يساعدان الإنسان على مضاعفة رصيده المعرفي باستمرار، وبالتالي إضافة معارف وحقائق جديدة إلى مكتسباته القبلية معتمدين في ذلك على جملة من المبادئ كالتي يعتمد عليها المنطق الصوري والمتمثلة أساسًا في الهوية، وعدم التناقض، والثالث المرفوع، والمبادئ التي يعتمد عليها المنطق المادي كالسببية، والحتمية، واطراد الظواهر.

كما أن المتأمل في كلا المنطقين يجد أنهما يحملان نفس الاشتقاق اللغوي باعتبارهما آليتين منطقيتين لذلك قيل أن: "المنطق بوجهيه الصوري والمادي في حقيقته يمثل دراسة للطريقة التي نفكر بها في الأشياء".

هذا وعلى الرغم من أن المنطق الصوري والمنطق المادي يعتبران منطلقًا للبحث عن المعارف إلا أنهما يشتركان معا كذلك في كون معارفهما نسبية ومتغيرة، فنتائج المنطق الصوري لا تعبر سوى عن الاتساق الداخلي بين المقدمات والنتائج وبالتالي قد تحمل في ذاتها تناقضا مع الواقع، والمنطق المادي بالرغم من اعتماده على التجريب كآلية للبحث والتقصي فنتائجه مبنية على قوانين علمية نسبية.

أوجه التداخل بين المنطق الصوري والمنطق المادي

انطلاقًا من أوجه التشابه بين المنطق الصوري والمنطق المادي يمكن استخلاص العلاقة القائمة بينهما والمتمثلة في علاقة التلازم والتكامل أي أن العلاقة هنا علاقة وظيفية يخدم فيها المنطق الصوري المنطق المادي من حيث أنه يمده بالمبادئ التي تضمن له عدم الوقوع في التناقضات والأخطاء، وبالتالي يلعب المنطق الصوري هنا دور المحقق والمراقب الذي يكشف الأخطاء ويبين نوعها.

كما أن المنطق المادي يخدم المنطق الصوري من حيث أنه يمده بمقدمات كلية صحيحة من ناحية الواقع، وبالتالي ضمان صحة النتائج بدليل أن التجارب العلمية هي التي تبين صحة أو خطأ الأفكار على مستوى الواقع، وهذا ما جعل لالاند يقول: "إن المنطق موضوعه اتفاق الفكر مع نفسه واتفاقه مع الواقع، وغرضه البحث عن القوانين التي يتم بها هذا الاتفاق المزدوج".

حل المشكلة:

في الأخير نستنتج مما سبق، أن علاقة المنطق الصوري بالمنطق المادي هي علاقة اتصال وتكامل، فبالرغم من الاختلاف الحاصل بينهما من حيث الموضوع، والمنهج، والهدف؛ إلا أن هناك تداخلًا وتكاملًا بينهما، فـ المنطق الصوري له دور في ضبط المنطق المادي من حيث ضمان الاتساق الداخلي بين الأفكار والنتائج، وتزويده بالمبادئ الجوهرية التي يضمن من خلالها العقل اتفاقه مع ذاته دون تناقض، كما أن المنطق المادي له دور جوهري في ضبط المنطق الصوري من خلال سد الثغرات والنقائص على مستوى الواقع من خلال ضمان اتفاق النتائج مع ما هو متعارف في الواقع، وبالتالي يمكن القول أن المنطق بصفة عامة هو تزاوج بين ما هو صوري نظري وبين ما هو واقعي تجريبي، وهذا ما عبر عنه غوبلو بقوله: "إن العلوم كلها بما فيها المنطق نظرية وتطبيقية معا". 

- ذات صلة: هل المنطق الصوري يعصم الفكر من الوقوع في الخطأ

مشاركة WhatsApp

المنشورات ذات الصلة