مقالة البيولوجيا

مقالة البيولوجيا جدلية

مقالة حول البيولوجيا
مقالة جدلية حول البيولوجيا

مقالة حول البيولوجيا

هل يمكن تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية

طرح المشكلة: احتل المنهج التجريبي مكانة مركزية في نسق العلم، واصبح نموذجا لكل معرفة تسعى إلى الدقة والموضوعية. هذا الأمر يُعد نتاجا لما تحقق من نجاح في خضم تطبيق المنهج التجريبي على الظواهر الجامدة، تماشيا مع ذلك حاول العلماء تجسيد هذا المنهج على الظواهر الحية، إلا أن طبيعة هذه الظواهر وبما تمتاز به من خصائص التعقيد والتشابك جعلت البعض منهم يؤكد على استحالة إرساء دراسة تجريبية على مستوى المادة الحية، في حين أقر البعض الآخر من الباحثين على إمكانية هذه الدراسة بالموازاة مع القدرة على تجاوز العقبات وتحيينها، وتطبيق خطوات المنهج التجريبي على منوال المادة الجامدة، وبناءً على هذا الجدل يمكننا طرح الإشكال التالي: هل يمكن إخضاع المادة الحية للتجريب على منوال المادة الجامدة؟ أو بمعنى آخر، هل يمكن اخضاعها لنفس القوانين التي تحكم المادة الجامدة؟ أو بالأحرى، هل الدراسة العلمية في المادة الحية أمر مستحيل؟ أم يمكن تجاوز كل العوائق وتحقيق النجاح في المادة الحية؟

محاولة حل المشكلة

القضية: الدراسة العلمية في المادة الحية أمر مستحيل

يذهب أنصار هذا الطرح من ذوي النزعة الإحيائية، أمثال (بونوف، جورج كوفييه، وكلغنهايم) للتأكيد على أن الدراسة التجريبية على المادة الحية على شاكلت المادة الجامدة أمر متعذر، إذ تعترض الباحث جملة من الصعوبات والعوائق، بعضها يتعلق بطبيعة الموضوع المدروس وهو (المادة الحية)، والبعض الآخر يتعلق بصعوبة تطبيق خطوات المنهج التجريبي عليها، إذ أن طابعها المعقد والمتشابك يحول دون إخضاعها لمبادئ العلم كـ السببية والحتمية والتنبؤ. 

أبرز الحجج والبراهين التي تؤكد صدق هذا الطرح ما يلي:

  • عائق طبيعة الموضوع: إن المادة الحية (مقارنة بالمادة الجامدة) شديدة التعقيد نظرا للخصائص التي تتميز بها وأهمها النمو والتكاثر والتغيير، إذ الحياة على حد تعبير الطبيب الفرنسي بيشا: "هي جملة الخصائص التي تقاوم الموت"، فـ الجسم الحي لا يتصف بالفردية، بل هو وحدة متكاملة لا يمكن تقسيمها دون أن يحصل خلل في طبيعتها، يقول كوفييه: "إن سائر أجزاء الجسم الحي مرتبطة فيما بينها ، فهي لا تستطيع الحركة إلا بقدر ما تتحرك كلها معا، والرغبة في فصل جزء من الكل معناه نقله إلى نظام الذوات الميتة، ومعناه أيضا تبديل ماهيته تبديلا تاما". ومن الأمثلة التي توضح هذه الصعوبة أن فصل عضو من أعضاء الكائن الحي كالمعدة أو الكلى يؤدي إلى تغير وظائف الكائن الحي، كما ذهب إلى ذلك كنغلهايم.
  • عائق تصنيف الحوادث: ليست ظواهر المادة الحية سهلة التصنيف على اعتبار أن كل كائن حي له خصوصيات ينفرد بها عن غيره، ومن ثمة فإن كل محاولة للتصنيف تقضي على الفردية وهي حقيقة أكدها ليبنتز في قوله: "لا يوجد فردان متشابهان".
  • عائق التعميم والتجربة: إن صعوبة التصنيف تحول دون تعميم النتائج على جميع أفراد الجنس الواحد بحيث أن الكائن الحي لا يكون نفسه مع الأنواع الأخرى من الكائنات، ويعود ذلك إلى الفردية التي يتمتع بها الكائن الحي. أما بخصوص التجريب فإن الباحث تواجهه مشكلة الفرق بين الوسطين الطبيعي والاصطناعي، فالكائن الحي في المخبر ليس كما في حالته الطبيعية إذ أن تغيير المحيط من وسط طبيعي إلى شروط اصطناعية يشوه الكائن الحي، ويخلق اضطرابا في العضوية، ويفقده التوازن. كما يتعذر تكرار التجربة في المادة الحية على غرار المادة الجامدة، لأن تكرارها لا يؤدي دوما إلى نفس النتائج، فنفس الأسباب في البيولوجيا لا تؤدي إلى نفس النتائج، وهو ما يلزم عنه عدم إمكانية تحقيق مبدأ الحتمية بصورة صارمة في ميدان هذه الدراسات، وبشكل عام فإن التجريب يؤثر على بنية الجهاز العضوي ويدمر أهم عنصر فيه وهو الحياة.
  • العائق الأخلاقي: هناك بعض الأديان تحرم تشريح الإنسان لأنه ذات مقدسة لها كرامة لا يعبث بها تحت أي مبرر، كما أن مسألة الاستنساخ على سبيل المثال أثارت حفيظة بعض رجال الدين والسياسة والأخلاق، لأن العلماء حاولوا تطبيقه في أغراض غير أخلاقية، بالإضافة إلى ذلك، فإن زرع الأعضاء من منظور بعض التيارات الإسلامية اعتبر تدخلا في قضاء الله وقدره. كما نجد بعض الاتجاهات السياسية التي تدعو إلى وقف التجريب على الحيوانات رفقا بها.

النقد: 

لكن هذه العوائق كلاسيكية لازمت البيولوجيا عند بداياتها الأولى ولم تمنع العلماء من محاولة اقتحامها وتجاوزها ومن ثمة العمل على إرساء دراسة تجريبية موضوعية على الظاهرة الحية بما يتماشى مع طبيعتها، بل إن هذه العوائق كانت نتيجة لعدم اكتمال بعض العلوم التي لها علاقة بالبيولوجيا كالكيمياء وغيرها، وسرعان ما تم تجاوزها بالموازاة مع التطور المرحلي للأبحاث العلمية. 

نقيض القضية: الدراسة التجريبية على المادة الحية أمر ممكن

يرى بعض العلماء من ذوي النزعة العلمية الوضعية وعلى رأسهم كلود بيرنارد أنه يمكن إخضاع المادة الحية للمنهج التجريبي، فـ المادة الحية مثل المادة الجامدة من حيث المكونات، وعليه يمكن تفسيرها بالقوانين الفيزيائية - الكيميائية، أي يمكن دراستها بنفس الكيفية التي ندرس بها المادة الجامدة.

من الحجج والبراهين التي تؤكد صدق هذا الطرح ما يلي:

  • أكد كلود بيرنارد في كتابه "المدخل إلى دراسة الطب التجريبي" على إمكانية تجاوز العوائق التي تفرضها طبيعة المادة الحية، لأن خصائصها لا يمكن معرفتها إلا بعلاقتها مع خصائص المادة الجامدة، فهي تتمتع بطبيعة فيزيائية وكيميائية، وهي آلات تحكمها نفس القوانين التي تحكم بقية الظواهر الطبيعية، إذ يقول بيرنارد: "الحياة هي الموت"، ثم يضيف قائلا: "إن المظاهر التي تتجلى لدى الكائنات الحية، مثل المظاهر التي تتجلى في الظواهر الجامدة، إنها تخضع لحتمية ضرورية تربطها بشروط كيميائية خالصة" ومن ثمة فإن تفسير الحياة لا يحتاج إلى قوانين غير تلك التي تفسر بها الظواهر الجامدة. ويقول بيرنارد أيضًا: "خير طريقة ينبغي إتباعها في علم الحياة هي الطريقة التجريبية".
  • يدعم هايزنبرغ هذا الموقف في قوله بأن: "التفاعلات الموجودة في الطبيعة ماهي إلا تلك التفاعلات التي تحدث على مستوى الجسم"، فـ المادة الحية تتكون من نفس عناصر المادة الجامدة، كالأوكسجين، والهيدروجين، والكربون، والكالسيوم، والفوسفور، هذا ما يبرر إمكانية التجريب على المادة الحية.
  • إن التطور في ميدان التكنولوجيا مكن العلماء من تجاوز العديد من العوائق حيث أصبح من الممكن إجراء التجريب على بعض الأعضاء دون إبطال وظائفها ووضعها في محاليل كيميائية ووسط اصطناعي ملائم، وأصبح من الممكن ملاحظة عمل القلب مفصولا عن الجسم دون أن تتأثر الوحدة العضوية للكائن الحي. فـ صعوبة الفصل والعزل لم تعد مطروحة، وعلى حد تعبير توماس كسكي: "أمكن فحص الجسم البشري من الخلايا المفردة إلى الحمض النووي". كما استنسخ بعض العلماء النعجة "دولي".
  • لقد مكن المجهر الالكتروني العلماء من الاطلاع على وظائف الخلية ومكوناتها، فقد اكتشف هؤلاء الأسس التي توجه بناء الخلية وهي الأحماض النووية المسؤولة عن الوراثة ومن ثمة أصبح علم الوراثة قائما بذاته وحقق نجاحا كبيرا.
  • لقد توصل كلود بيرنارد في تجربته على الأرانب أنها تتغذى على لحومها في حالة الصوم وقام بتعميم هذه النتيجة على آكلات العشب، كما برهن باستور على وجود الجراثيم في الهواء، ومنه فإن تواجدها في الجسم ناتج عن استنشاقها من الهواء (التلازم في الحضور). إنه بفضل التجريب على حد تعبير بيرنارد يمكننا فهم ظواهر الأجسام الحية والسيطرة عليها.

النقد:

بالرغم من كل ما تحقق في ميدان البيولوجيا، لكن نبالغ إذا اعتبرنا الكائن الحي مجرد آلة ميكانيكية شبيهة بالمادة الجامدة، فـ العضوية قد تدخل عليها تغييرات تجعل من الصعب تفسيرها أليا، فـ الغائية لها أهمية في فهم وتفسير المادة الحية، مع ما تحمله الغائية من اعتبارات ميتافيزيقية قد لا تكون للمعرفة العلمية علاقة بها. كما أنه لحد الساعة لا زالت هنالك عدة قضايا مستعصية على العلماء في دراستهم للمادة الحية.

التركيب:

لاريب في أن حدود التجريب في البيولوجيا ترجع إلى عوائق ابستيمولوجية نابعة من صميم موضوعها، هذه العوائق تم تجاوزها تدريجيا، أولا من خلال مراعاة خصوصيات الكائن الحي "التغير والتكاثر"، يقول بيرنارد: "يجب على البيولوجيا أن تستعير المنهج التجريبي ولكن مع الاحتفاظ بخصوصيتها"، وثانيا من خلال طرح فكرة التجريب في البيولوجيا في ضوء علاقة العلم بالأخلاق والدين، وكما قال بوانكاريه: "لا يمكن أن يكون العلم لا أخلاقيا لأن الذي يحب الحقيقة العلمية لا يمكنه أن يمتنع عن محبة الحقيقة الخلقية".

حل المشكلة

في الأخير، نستنتج مما سبق أن التجريب في البيولوجيا ممكن بشرط احترام خصوصيات الكائن الحي، وكذا المبادئ الأخلاقية. فما دامت البيولوجيا تعتمد المنهج التجريبي باعتباره مقياس للدقة والموضوعية، يمكن لها أن ترتقي في هذه الدراسة على شاكلت العلوم الفيزيائية. وتحقيق ذلك مرهون بفرضية "طبيعة الموضوع تحدد طبيعة المنهج". 

- ذات صلة: مقالة قيمة الفرضية

مشاركة WhatsApp

المنشورات ذات الصلة