مقالة قيمة الفرضية

مقال جدلي حول قيمة الفرضية جميع الشعب سنة ثالثة 

مقالة جدلية حول قيمة الفرضية
قيمة الفرضية

مقالة جدلية حول قيمة الفرضية

هل يمكن الاستغناء عن الفرضية في المنهج التجريبي؟

طرح المشكلة:

يستند المنهج التجريبي في دراسته للظواهر الطبيعية إلى عدة خطوات من بينها الفرضية التي هي تلك الفكرة المسبقة التي توحي بها الملاحظة للعالم، فتكون بمثابة خطوة تمهيدية لوضع القانون العلمي. حيث تلعب دورًا هامًا في بناء العلم وتطوره. ومع ذلك، فإن قيمة الفرضية تثير جدلاً واختلافًا في الأوساط الفكرية والفلسفية، حيث يتباين الرأي بين العقلانيين الذين يرون أن الفرضية ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها في عملية البحث العلمي، وبين التجريبيون الذين يعترضون عليها ويطالبون بضرورة الاستغناء عنها لأنها تعرقل مسار البحث العلمي. أمام هذا الجدل الفلسفي نطرح الإشكال التالي: هل يمكن إقامة تجارب عملية دون الحاجة إلى الفرضية؟ بصياغة أخرى، هل الفرضية خطوة ضرورية في المنهج التجريبي، أم أنه يمكن الاستغناء عنها؟

محاولة حل المشكلة: 

الأطروحة: "الفرضية خطوة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها". 

 يذهب أنصار الاتجاه العقلي إلى أن الفرضية كفكرة تسبق التجربة أمر ضروري في البحث التجريبي، ومن أهم المناصرين للفرضية كخطوة تمهيدية في المنهج التجريبي نجد "بوانكاريه، كلود برنارد، غوبلو" حيث يعتقدون بأنه من المستحيل إقامة تجربة دون الاعتماد على الفرضيات التي تعتبر العمود الفقري للمنهج التجريبي ولا جدوى منه في غيابها، وهذا ما يعبر عنه كلود برنارد بقوله: "إن التجريب دون فكرة سابقة غير ممكن"، وبالتالي نجد كلود برنارد يعتبر الفرض العلمي خطوة من الخطوات الهامة في المنهج التجريبي. أما المسلمة المعتمدة في هذه الأطروحة هي أن "العقل أصل المعرفة وبالتالي فهو يعطينا الفكرة التي ننطلق منها في التجربة". في هذا الصدد نجد أن الانطلاقة الفعلية للتجارب لا تكون من الملاحظة لأن الملاحظة نجدها عند جميع الناس وإنما تكون الانطلاقة عندما يتوصل العقل إلى الفرضية المناسبة يقول كلود برنارد: «الفكرة هي مبدأ كل برهنة وكل اختراع وإليها ترجع كل مبادرة» ويقول أيضا: «ينبغي بالضرورة أن نقوم بالتجريب مع الفكرة المتكونة من قبل». كما أن المنهج التجريبي هو عبارة عن ثلاث خطوات منظمة ومرتبة تتبع بعضها البعض حيث تتسبب الملاحظة في طرح تساؤلات تؤدي إلى وضع الفرضية المناسبة والتي نتأكد من صحتها بواسطة التجربة، وإلغاء التجربة يؤدي إلى حدوث خلل في هذا المنهج وبالتالي يستحيل عليه أن يحقق لنا نتائج علمية، ولذا يقول كلود برنارد: «إن الحادث يوحي بالفكرة والفكرة تقود إلى التجربة وتحكمها والتجربة تحكم بدورها على الفكرة». وهذا ما يؤكده أيضا العالم الفرنسي هنري بوانكاريه: «إن الملاحظة والتجربة لا تكفيان لإنشاء العلم فمن يقتصر عليهما يجهل صف العلم الأساسية»، كما أن غياب الفرضية حسبه يجعل كل تجربة عقيمة وهذا ما جعله يصرح: «ذلك لأن الملاحظة الخالصة والتجربة الساذجة لا تكفيان لبناء العلم». مما يدل على أن الفكرة التي يسترشد بها العالم في بحثه تكون من بناء العقل وليس بتأثير من الأشياء الملاحظة، ويقدم لنا كلود برنارد أحسن مثال يؤكد فيه عن قيمة الفرضية وذلك في حديثه عن العالم التجريبي "فرانسوا هوبير"، وهو يقول أن هذا العالم العظيم على الرغم من أنه كان أعمى إلا أنه ترك لنا تجارب رائعة كان يتصورها ثم يطلب من خادمه أن يجربها، ولم تكن عند خادمه هذا أي فكرة علمية، فكان هوبير العقل الموجه الذي يقيم التجربة لكنه كان مضطرا إلى استعارة حواس غيره وكان الخادم يمثل الحواس السلبية التي تطبع العقل لتحقيق التجربة المقامة من أجل فكرة مسبقة. وبهذا المثال نكون قد أعطينا أكبر دليل على وجوب الفرضية وهي حجة منطقية تبين لنا أنه لا يمكن أن نتصور في تفسير الظواهر عدم وجود أفكار مسبقة والتي سنتأكد على صحتها أو خطئها بعد القيام بالتجربة.

النقد: 

صحيح أن الفرضية ضرورية للتجريب ولا غنى عنها ولكن كثيرا ما تكون الفرضيات غيبية لا تتلاءم مع الروح العلمية.

نقيض الأطروحة: "الفرضية خطوة غير ضرورية يجب الاستغناء عنها".

في الجهة المقابلة نجد أنصار الفلسفة التجريبية والذين يقرون بأن الحقيقة موجودة في الطبيعة والوصول إليها لا يأتي إلا عن طريق الحواس أي أن الذهن غير قادر على أن يقودنا إلى حقيقة علمية، وبالتالي يجب الاستغناء عن الفرضية لأنها تعتبر عائق يقف في وجه التجربة العلمية. فالفروض جزء من التخمينات العقلية لهذا نجد هذا الاتجاه يحاربها بكل شدة؛ حيث نجد على رأس هؤلاء الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل الذي يقول فيها: «إن الفرضية قفزة في المجهول وطريق نحو التخمين، ولهذا يجب علينا أن نتجاوز هذا العائق وننتقل مباشرة من الملاحظة إلى التجربة»، وينطلقون من المسلمة القائلة: "العقل يولد صفحة بيضاء ويستحيل عليه أن يعطينا أفكارا قابلة للتجربة" وحججهم على ذلك هي أن الفرضية حسب النزعة التجريبية تبعد المسار العلمي عن منهجه الدقيق لاعتمادها على الخيال والتخمين المعرض للشك في النتائج – لأنها تشكل الخطوة الأولى لتأسيس القانون العلمي بعد أن تحقق بالتجربة – هذا الذي دفع من قبل العالم نيوتن إلى القول: «أنا لا أصطنع الفروض» كما نجد "ماجندي" يرد على تلميذه كلود برنارد: «اترك عباءتك، وخيالك عند باب المخبر». حيث يؤكد أن الفرضية تقيد الملاحظة فيصبح العالم أسير أوهامه وتخيلاته اللامتناهية وهو ما ينعكس سلبا على التجربة ويحول دون إدراك الحقيقة العلمية ويشوه صورتها الصادقة. حيث نجده يقول: "إن الملاحظة الجيدة تغنينا عن سائر الفروض"، وقد استبدل ميل الفرضية بمجموعة من  القواعد سماها بقواعد الاستقراء متمثلة في: (قاعدة الاتفاق أو التلازم في الحضور، قاعدة الاختلاف أو التلازم في الغياب، قاعدة التلازم في التغير أو التغير النسبي، قاعدة البواقي) وهذه القواعد حسب "جون ستيوارت" تعني البحث العلمي عن الفروض العلمية.

النقد: 

صحيح أن الفروض كثيرا ما تكون خارج الإطار وتعيق التجريب ولكن النزعة التجريبية قبلت المنهج الاستقرائي وقواعده لكنها تناست أن هذه المصادر هي نفسها من صنع العقل مثلها مثل الفرض أليس من التناقض أن نرفض هذا ونقبل بذاك.

التركيب: 

مما سبق ندرك أن الفرضية شرط ضروري للتجريب ويستحيل علينا الاستغناء عنها ولكن ينبغي أن تكون نابعة من الروح العلمية بعيدا عن الغيبيات، لقد أحدثت فلسفة العلوم (الابستمولوجيا) تحسينات على الفرض – خاصة بعد جملة الاعتراضات التي تلقاها من النزعة التجريبية – ومنها: أنها وضعت لها ثلاثة شروط (الشرط الأول يتمثل في: أن يكون الفرض منبثقا من الملاحظة، الشرط الثاني يتمثل في: ألا يناقض الفرض ظواهر مؤكدة تثبت صحتها، أما الشرط الأخير يتمثل في: أن يكون الفرض كفيلا بتفسير جميع الحوادث المشاهدة)، كما أنه حسب "عبد الرحمن بدوي" لا نستطيع الاعتماد على العوامل الخارجية لتنشئة الفرضية لأنها برأيه «… مجرد فرص ومناسبات لوضع الفرض …»، بل حسبه أيضا يعتبر العوامل الخارجية مشتركة بين جميع الناس ولو كان الفرض مرهونا بها لصار جميع الناس علماء وهذا أمر لا يثبته الواقع فالتفاحة التي شاهدها نيوتن شاهدها قبله الكثير لكن لا أحد منهم توصل إلى قانون الجاذبية. ولهذا نجد عبد الرحمان بدوي يركز على العوامل الباطنية؛ «… أي على الأفكار التي تثيرها الظواهر الخارجية في نفس المشاهد»، كما أن الكثير من الاكتشافات العلمية كان الفضل فيها يعود إلى الملاحظة فقط كما هو الشأن مع لويس باستور الذي افترض أن الهواء يحتوي على جراثيم وهي التي تسبب التعفن رغم أنه لم يتمكن من ملاحظة ذلك. فالفرض من أكثر المساعي العلمية فعالية، بل هو المسعى الأساسي الذي يعطي المعرفة العلمية خصبها سواء كانت صحته مثبتة أو غير مثبتة، لأن الفرض الذي لا تثبت صحته يساعد بعد فشله على توجيه الذهن وجهة أخرى وبذلك يساهم في إنشاء الفرض من جديد؛ فالفكرة إذن منبع رائع للإبداع مولد للتفكير في مسائل جديدة لا يمكن للملاحظة الحسية أن تنتبه لها بدون الفرض العلمي.

حل المشكلة:

نستنتج في الأخير أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار دور الفرضية أو استبعاد آثارها من مجال التفكير عامة، لأنها من جهة أمر عفوي يندفع إليه العقل الإنساني بطبيعته، ومن جهة أخرى وهذه هي الصعوبة، تعتبر أمرا تابعا لعبقرية العالم وشعوره الخالص، وقديما تنبه العالم المسلم الحسن بن الهيثم –قبل كلود برنارد– في مطلع القرن الحادي عشر بقوله عن ضرورة الفرضية «إني لأصل إلى الحق من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية»، ومعنى هذا أنه لكي ينتقل من المحسوس إلى المعقول، لابد أن ينطلق من ظواهر تقوم عليها الفروض، ثم من هذه القوانين التي هي صورة الظواهر الحسية. وهذا ما يأخذنا في نهاية المطاف إلى التأكيد على قيمة الفرضية. 

- ذات صلة: مقالة جدلية حول البيولوجيا

- اقرأ أيضًا: مقالة أصل المفاهيم الرياضية

مشاركة WhatsApp

المنشورات ذات الصلة