مقالة العادة والارادة

هل التكيف يحدث بالعادة أم بالإرادة؟ 

مقالة جدلية العادة والارادة
مقالة العادة والإرادة

أستاذ الفلسفة/ عماري فرحات

مقالة جدلية العادة والارادة

الأسئلة:

هل التكيف مع العالم الخارجي يتم بالعادة أم بالإرادة؟ 

هل العادة تعيق التكيف مع العالم الخارجي؟ 

هل اكتساب العادات يعيق تكيف الإنسان مع العالم الخارجي؟ 

هل التكيف مع العالم الخارجي ومستجداته يتحقق بالعادة؟ 

المقدمة: الإنسان هو فرد من أفراد النوع الحيواني الذي يسعى إلى التكيف مع العالم الخارجي، وبالتالي سيحتاج في تكيفه هذا إلى مجموعة من العوامل والوظائف الحيوية، ولعل أبرزها توسطا بين الإنسان والحيوان نجد العادة والإرادة، وهما فعاليتان تبدوان متناقضتين ظاهريا، وفضلا عن ذلك فالعادة وظيفة تمتاز بالتكرار، ويقل فيها نشاط العقل لدرجة سهولتها على التحصيل الحيواني، في حين الإرادة نشاط عقلي – نفسي معقد، هذا التباين قسم منظور الفلاسفة والسيكولوجيين إلى نظريتين، الأولى ترى أن التكيف يحدث بالعادة لأنها وظيفة بسيطة غير معقدة. بينما ترى الثانية في الإرادة السبيل الوحيد للاتصال بالعالم الخارجي، لأنها ممارسة يصاحبها الوعي العقلي، الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان، فهل يا ترى يمكن الجزم بأن الإرادة هي الأصل في التكيف؟ أو بمعنى أوضح، هل الإنسان يتصل بالعالم الخارجي ويعايشه عن طريق العادة أم الإرادة؟

الموقف الأول: العادة كفيلة بتحقيق التكيف مع العالم الخارجي

يرى أنصار النظرية الأولى أن العادة كفيلة بتحقيق التكيف، حيث يؤكد الفلاسفة ذو النزعة المادية أن الإنسان كائن كغيره من الكائنات التي تعيش في العالم الخارجي، وتخضع إذ ذاك لمجمل عوامله لاسيما البيئية منها، طالما أن الاتصال والتكيف حتمية طبيعية لحفظ البقاء والنوع، ويوضح هؤلاء الفلاسفة كذلك أن العادة عامل مساعد على تحقيق التكيف، لأنها وظيفة آلية وتمتاز بالرتابة والسيولة، لهذا أرسطو يعرفها بقوله: "العادة طبيعة ثانية"، فالعادة في اعتقاد أرسطو تأتي مباشرة بعد الطبيعة الأولى التي هي الغريزة، هذه الأخيرة التي لا تنفك الحيوانات عنها، أكانت عاقلة أم غير عاقلة، في حين تتطلب العادة كطبيعة مكتسبة التعلم المتكرر وهنا قال أرسطو كذلك: "العادة وليدة التكرار"، والملاحظ هنا يجد الغريزة فطرية في الكائنات، في حين تبقى العادة بعدية مكتسبة، وبالتالي أرسطو يرى في العادة عاملا مساعدا على التكيف لأن الإنسان كلما اكتسب العادات سهل عليه التكيف والعكس بالعكس. على سبيل المثال، الحيوان الغريزي والإنسان في طبيعة تكيفهما، إن الفرق ظاهر بسبب تحصيل الإنسان لأكبر عدد من العادات، وغيابها عند الحيوان، هذا كما نجد ابن سينا يعتبر العادة وسيلة من شأنها تحصيل الاتصال بموضوعات العالم الخارجي، وزيادة على آراء القدامى، يتفق السيكولوجيون وعلماء الطبيعة المعاصرون، أن الترويض الذي يمارسه المربون على شتى فئات الحيوانات يبين بحق منزلة العادة في التكيف، فتجارب عالم النفس الأمريكي "جون واطسون" رائد المدرسة السلوكية، وكذلك "بافلوف" صاحب نظرية المنعكس الشرطي، تبرهن أن التكرار والتمرن يساعدان على المعايشة البيئية للإنسان والحيوان معا، وبالجملة كل الفلاسفة والعلماء السيكولوجيين الذين يعتبرون العادة وظيفة ايجابية هم تاليا يعدونها منوطة بتحقيق التكيف، حتى في غياب الإرادة.

النقد: 

إن الموقف الأول صرح بقيمة العادة في التكيف، ونحن نقر معه بذلك، لكن الاعتماد على هذه الوظيفة فقط في عملية الاتصال بالعالم الخارجي، يحيل الإنسان إلى مجرد حيوان غريزي لا يستطيع أن يبين مؤشراته العقلية أثناء عمله التكيفي، ثم إن التكرار لا يأتي البتة بالجديد، وفي حقيقة الحال نحن دوما نرى الإنسان يأتي بالجديد، فبماذا نفسر هذا؟

الموقف الثاني: الإرادة كفيلة بتحقيق التكيف مع الوسط الحيوي الخارجي

إن النقد السلبي الذي وُجّه لأنصار العادة ولّد طرحا آخر مفاده أن الإرادة هي الكفيلة بتحقيق التكيف مع الوسط الحيوي الخارجي. تزعم هذا المنظور فلاسفة المدرسة العقلية، نذكر على سبيل المثال "شارل بلوندال" الذي اعتبر الإرادة نشاطا إنسانيا محضا ووفقها يحدث التكيف، حيث يقول: "إن الإرادة والعقل هما من الهبات الرائعة التي أكسبنا إياها المجتمع منذ زمن المهد"، والاكتساب هنا يقتضي الحضور العقلي الذي يميز الإرادة عن باقي الوظائف الحيوية التي يغيب فيها نشاط العقل، وخاصة العادة التي تؤدي إلى التكرار الممل، ولهذا نجد الفعالية العقلية في الفعل الإرادي أجدر بتحقيق التكيف من الفعل التعودي، وهنا يتضح لنا أن الإرادة تسعى لتحرير الإنسان لتمنح له الحرية المناسبة للاتصال بالعالم الخارجي، ولهذا السبب ينتقد كانط العادة لأنها تطوق الإرادة بقوله: "كلما زادت العادات عند الإنسان أصبح أقل حرية واستقلالية"، وبالتالي فالنشاطات الإنسانية تنحصر بين التكرار والحيوية المتجددة، وطالما أن العقل حرية كاملة في تنويع قنوات الاتصال فلا معنى حينئذ للتكرار التعودي إلا كونه عائقا بارزا للإنسان العاقل، ويصبح بعد ذلك مجرد آلة ديناميكية لا جديد يذكر بحوزتها، هذا ويتفق "شوبنهاور" مع كانط بخصوص تميز الإنسان عن عالم الأشياء بالعقل، والذي به يتصل ويتواصل معها، ولا يُخفى على أحد أن الإنسان يفعل في الأشياء بالتفكير في كيفية تسخيرها لصالحه ولبقائه، وهذا هو التكيف بعينه، ويؤكد هذا الرأي "موني" حيث يقول: "لا يمكن اعتبار الإنسان شيئا أو موضوعا لأنه يتميز بالإرادة والوعي"، ومجمل القول، لقد اتفق أنصار هذا الموقف على أن الإرادة هي الفعالية المناسبة للتكيف ولا محيد عنها. 

النقد والمناقشة: 

نعم الإرادة نشاط إنساني يترجم حضوره العقلي، لكن هذه الوظيفة غير كافية لتحقيق الاتصال، لأن هناك أغراضا يسعى الإنسان لتوفيرها لا تسعها الإرادة، ففعل الكتابة مثلا يقتضي التعلم بالعادة، وليس كل من يريد أن يكتب سيكتب، وحتى الطفل لا يولد قادرا على الفعل الإرادي لأن عقله غير مكتمل، وحجة ذلك أن الإرادة ممارسة عقلية، بل الطفل يتوسل للتكيف بالطبيعة الأولى أو الغريزة، ثم شيئا فشيئا بالطبيعة الثانية، أو العادة، ويظهر ذلك في تقليده للكبار وطلبه للتعلم، فأين إذن إرادته رغم كونه إنسانا. 

التركيب:

يبدو أن التناقض الحاصل بين الموقفين، يحيلنا إلى محاولة التوفيق بينهما، والإقرار بأن التكيف ضرورة انطولوجية (وجودية) للإنسان وسائر الكائنات، وبالتالي يقتضي توفر كل من العادة والإرادة معا، فهما وظيفتان حيويتان اجتمعتا في الإنسان لحكمة الاتصال بالعالم الخارجي. كلما دققنا التأمل في العادة وفي ممارستها وجدناها ترتبط أشد ارتباط بالجسم، على العكس من ذلك، إذا نظرنا إلى الإرادة فهي مُلحقة بالبعد النفسي والعقلي، ومادام الإنسان مادته الجسم وصورته النفس، فتكيفه يحدث بهما جميعا، ويتجلى ذلك في العادة والإرادة.

في تقديري، أرى أن التكيف والاتصال مع العالم الخارجي يحدث أكثر بالإرادة، على الرغم من منزلة العادة، لأن الفعل الإرادي عقلي، والعقل صفة جوهرية في الإنسان.

خاتمة: بعد هذا التحليل الذي شمل تضارب آراء الفلاسفة وتجادلها بخصوص آلية التكيف بين العادة والإرادة، نستنتج أن التكيف لا يتحقق بالتمام إلا في وجود الممارسة التعودية مع الأفعال الإرادية، إذ مادام العالم الخارجي متعدد القنوات، فإن ذلك يدل على تنوع المنافذ والسبل إليه، فبعد التعرف على آليتي الإحساس الإدراك وغيرها من الفعاليات ودورها في التكيف، يظهر أخيرا أن العادة والإرادة لا تقل شأنا عنهما، فهما متكاملتان وظيفيا.

- ذات صلة: مقالة العادة سلبيات وايجابيات

مشاركة WhatsApp

المنشورات ذات الصلة