الإلحاد : مشكلة الملحدين مع العلم

بقلم الكاتب والمفكر أ/ عصام القيسي

موقف الملحدين من العلم
مشكلة الملحدين مع العلم

الإلحاد

تشهد العقود الأخيرة موجة جديدة من موجات الإلحاد في المجتمعات الإسلامية، تشبه إلى حد ما تلك التي حدثت في النصف الأول من القرن العشرين، في أوساط المثقفين الذين أصابتهم صدمة الحضارة الغربية الحديثة. في تلك الموجة غمرت مياه الشك قطاعاً واسعاً من المثقفين النابهين، وجرفت بعضهم إلى بحر الإلحاد. حيث ظهرت أسماء كانت لامعة في حينها تُعلن شكها وإنكارها الصريح للدين والإله، مثل المفكر السعودي عبد الله القصيمي، الذي بدأ حياته الفكرية بالدفاع عن المذهب الوهابي، وانتهت بسلسلة من كتب الشك والإلحاد. ومثله عالم الرياضيات إسماعيل أدهم الذي أعلن إلحاده في كتاب بعنوان "لماذا أنا ملحد؟"، متأثراً – ربما - بكتاب برتراند راسل "لماذا أنا لست مسيحياً؟".

والشاعر العراقي معروف الرصافي صاحب كتاب "الشخصية المحمدية"، الذي اعتبر محمداً أحد الأذكياء المصلحين لا أحد الأنبياء المرسلين. وأبكار السقاف صاحبة كتاب "الدين في شبه الجزيرة العربية"، الذي حملت فيه على النبي محمد بقسوة لم تستطع إخفاءها.
ولا نكاد نجد اسماً لامعاً في مجالي الفكر والأدب – آنذاك – لم يصبه بلل الشك والإنكار. بعض هؤلاء أصبح له فيما بعد صولة وجولة في الدفاع عن الدين والإيمان، كعباس العقاد الذي قال فيه محمد الغزالي إنه أهم من دافع عن الإسلام في العصر الحديث. هذا العقاد نفسه كان في مرحلة متقدمة من حياته يحلف قائلاً "والله الذي لا وجود له"، حسب رواية رجاء النقاش عن مكرم عبيد، زميل العقاد وخصمه في حزب الوفد (1).
بل إن أنيس منصور يضعنا في حالة حيرة وشك حينما يخبرنا، في كتابه الشهير "في صالون العقاد"، بأن هذا الأخير كانت تنتابه لحظات شك في المرحلة الأخيرة من حياته، حتى أنه كان يستخف بالوجود قائلاً: أعطوني العجينة الأولى وأنا أصنع لكم كوناً أعظم منه!. وهكذا كان الحال مع طه حسين (2)، وتوفيق الحكيم (3)، وزكي نجيب محمود (4)، ومجمل مثقفي اليسار العربي، من أمثال سلامة موسى ولويس عوض.

الإلحاد والعلم

قد يميل بعضنا إلى تفسير ظاهرة الإلحاد تفسيراً نفسياً، لكن مهما تكن دوافع الموقف الإلحادي فإنه لا يستغني عن التأصيل العلمي لمقولاته. إذ هو عاجز عن الاكتفاء بمجرد الرفض والإنكار، ومطالب بتفسير الظاهرة الوجودية تفسيراً مناهضاً للتفسير الديني، ومن هنا تأتي حاجته الماسة إلى العلم. بل إن الكثير من الملحدين يظهرون كثيراً من الزهو بأنفسهم والثقة بقناعاتهم. ومصدر ذلك الزهو وتلك الثقة هو الاعتقاد بأن الإلحاد موقف علمي حرّ، يميز عقل صاحبه عن العقل الخرافي للمؤمن الساذج!.


والحق أن الإلحاد قد عاش أزهى أيامه في ثلاثة قرون هي السابع والثامن والتاسع عشر، حيث اعتاش على معطيات العلوم الطبيعية والتجريبية لهذه القرون. فقد وجد الإلحاد بغيته في هذه العلوم لأنها كانت تتبنى المنظور المادي، وهو الأساس الفلسفي للإلحاد طوال الوقت. ولم يكن يخطر ببال أحد آنذاك أن يتغير منظور العلم من المنظور المادي المتصالح مع الإلحاد إلى المنظور فوق المادي المتصالح مع الدين. بل إن الكثير من الملحدين لم يُدرك بعد هذه النقلة النوعية الخطيرة. لم يدرك أن المنظور العلمي لتلك القرون قد أصبح جزءًا من ماضي العلم وتراثه، وأن منظورًا جديدًا قد حل محله بهدوء، منذ أن ظهرت نظرية النسبية لإنشتاين في العام 1905، وما تلاها من نظريات فيزيائية حديثة.
هذا التحول في المنظور العلمي هو الذي شغل كلاً من روبرت أغروس، أستاذ فلسفة العلم الكندي، وجورج ستانسيو، أستاذ الفيزياء النظرية الأمريكي، فأصدرا كتابهما الشائق "العلم في منظوره الجديد". الكتاب الذي وضع ألغاماً كثيرة في جيوب الإلحاد، وكشف عن الكيفية التي هدم بها العلم الحديث أركان المذهب المادي.
جاء في العرض الترويجي للكتاب: إنه بإزاء النظرية المادية للعلم في القرون الثلاثة سالفة الذكر "ظهرت في مطلع القرن العشرين نظرية علمية منافسة، كان من ألمع روادها أينشتاين، وهايزنبرغ، وبور، وغيرهم. وقد أجمعت آراء كبار علماء الفيزياء النووية، والكوزمولوجيا في هذا القرن على أن المادة ليست أزلية، وأن الكون في تطور وتمدد مستمرين، فدعوا إلى الإيمان بعقل أزلي الوجود يدبر هذا الكون ويرعى شئونه.
ثم جاء جيل آخر من العلماء المتخصصين في مبحث الأعصاب من أمثال شرنغتون، وأكلس، وسبري، فخلصوا بعد بحوث مضنية إلى أن الإنسان مكون من عنصرين جوهريين: جسدٌ فان وروح باقية لا ينالها الفناء، وأن الإدراك والتفكير ليس من صنع المادة، بل يؤثران تأثيراً مباشراً في العمليات الفسيولوجية ذاتها. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية ظهرت حركة جديدة في علم النفس، اعترف روادها بالعقل، ورفضوا تفسير السلوك البشري بلغة الدوافع والغرائز الحيوانية، وآمنوا – بدلاً من ذلك – بالقيم الأخلاقية الجمالية، والجوانب الروحية والفكرية والنفسية" (5).

لا شك أن فلاسفة الإلحاد قد أصيبوا بخيبة أمل كبيرة في العلم، إذ في حين كانوا ينتظرون منه أن يعزز مواقفهم ضد الدين إذا به يطعنهم في الظهر ويقلب عليهم الطاولة. لكنهم مع ذلك لم يرفعوا الراية البيضاء، فقد ذهبوا يقللون من أهمية المعطيات التي قدمها علماء الفيزياء تحديداً، قائلين إنها لا تكفي في الدلالة على ما يطلبه المؤمنون. فحتى لو سلمنا بأن الكون حادث طارئ لم يكن له وجود قبل حوالي 13,7 مليار سنة كما تقولون، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن الذي أوجده هو الله، إذ من المحتمل أن يكون قد تولد عن كون آخر قبله. بل من المحتمل أن يكون قد تولد عن العدم، لأن العدم نفسه "شيء" قديم لا أول له!. وهذه المماحكة ليست جديدة على الخطاب الإلحادي فهي عادة قديمة اضطر معها أحياناً لارتكاب حماقات لو ارتكبها الخطاب الإيماني لجعلوا منها نوادر تروى.
مثل تلك الحماقة التي ارتكبها ديفيد هيوم في محاولة لإنقاذ مذهبه المادي من السقوط عندما أنكر وجود علاقة بين السبب والنتيجة!.

إن الموقف الإلحادي يدرك تماماً أن خسارته للذرائع العلمية ستصيبه في مقتل، وهو لذلك يحاول تعزيز نقاط قوته والتقليل من أهمية نقاط القوة لدى الطرف الآخر. وفي هذا السياق تأتي جهود عالم الأيثولوجيا البريطاني ريتشارد دوكنز. الذي يعد منظر الإلحاد الأول في العالم اليوم. وهي راية استلمها من زميل الوطن الفيلسوف والعالم البريطاني أنطوني فلو، بعد أن عاد هذا الأخير إلى حضيرة الإيمان في مفاجأة صادمة للأوساط العلمية قبل سنوات. فقد ظل فلو ينظّر للإلحاد قرابة ستين عاماً قبل أن يقف على منصة أحد المؤتمرات العلمية ليقول: أيها السادة، هناك إله!. وهو ما أثار استياء دوكنز الذي لم يجد تفسيراً لموقف فلو سوى كبر السن والخوف مما بعد الموت، وياله من تفسير علمي رصين!.

إن دوكنز يناضل في سبيل توفير المنطق العلمي الكافي لإثبات صحة الموقف الإلحادي، ولا يقلقه في سبيل ذلك أن يرتكب حماقات علمية كتلك التي ارتكبها في كتابه "وهم الإله" حيث زعم أن المصادفات - وفقاً لنظرية الاحتمالات الرياضية - يمكنها أن تصنع طائرة بوينغ 747، كما يمكنها أن تكتب رواية لشكسبير على يد مجموعة من القردة!. ومثل تلك المحاولة المضنية التي بذلها في كتابه "صانع الساعات الأعمى" لتأكيد نظرية النشوء والارتقاء. وهي النظرية الأساسية التي يتمسك بها الإلحاد في تفسير الحياة على وجه الخصوص. حيث يرى أن التكاثر مع وجود تباين وراثي وانتخاب طبيعي لا عشوائي – إذا أتيح له الزمن الكافي – فإنه يؤدي إلى نتائج تطورية في الحياة هي أبعد من الخيال. والزمن الكافي هنا يعني مليارات السنين التي تقترب من 4 مليار سنة مضت (6).

وهي محاولة ناجحة بالفعل إذا صح شرطها المذكور، لكن أنى له أن يصح!. فحتى نظرية الاحتمالات الرياضية التي كانت بمثابة الجوكر في يد الإلحاد، لم تقدم لهم سوى خيبة أمل أخرى. ونظرية الاحتمالات (الصدف) كما يقول أحد العلماء الأمريكيين "ليست افتراضاً، وإنما هي نظرية رياضية عليا، وهي تطلق على الأمور التي لا تتوفر في بحثها معلومات قطعية، وهي تتضمن قوانين صارمة للتمييز بين الحق والباطل، وللتدقيق في إمكان وقوع حادث من نوع معين، وللوصول إلى نتيجة هي معرفة مدى إمكان وقوع ذلك الحادث عن طريق الصدفة"(7). فماذا تقول نظرية الاحتمالات الرياضية عن إمكانية حدوث الخلق بالصدفة المحضة يا ترى؟

في معرض حديثه عن رحلته من الإلحاد إلى الإيمان يقول أنطوني فلو إنه التقى بالعالم جيرالد شرويدر الذي فند له "برهان القردة" القائم على حساب الاحتمالات (8). وهو البرهان الذي تمسك به دوكنز في "وهم الإله". وخلاصة هذا البرهان تقول إنه لو تركنا مجموعة من القردة تضرب على لوحة الحاسوب وقتا كافياً لأمكن لها أن تكتب قصيدة لشكسبير أو رواية من رواياته!. فما كان من شرويدر إلا أن أجرى التجربة بالفعل، فجمع ستة قرود في غرفة واحدة لمدة شهر، بعد أن علمها الضرب على لوحة الحاسوب، فماذا كانت النتيجة؟.. خمسون صفحة مطبوعة، ليس فيها كلمة واحدة صحيحة، حتى لو كانت هذه الكلمة من حرف واحد (أي من حرف قبله مسافة وبعده مسافة)، وعلى ضوء هذه النتيجة أجرى حساب الاحتمالات لكتابة سوناتا شكسبير مكونة من 488 حرفاً بنفس التجربة، فكان احتمال النجاح هو 1 مقسوم على 26 مضروبة في نفسها، أي ما يعادل 10 وعلى يمينها 690 صفراً، وهو رقم مهول لا تكفي فيه جسيمات الكون كله لإجراء هذا العدد من المحاولات، إذ أن عدد جسيمات الكون = 10 وعلى يمينها 80 صفرا فقط. ومعنى ذلك أننا سنحتاج إلى المزيد من الجسيمات بمقدار 10 وعلى يمينها 600 صفر!. أي ضعف الكون الموجود أكثر من سبع مرات.

ليس هذا فحسب، بل إن المختصين قد وضعوا للصدفة قانوناً يضبطها، فحددوا ما يعرف بـ"مقدار الاحتمال الملزم" الذي يستحيل بعده تفسير حدوث أمر ما بالصدفة وحدها، ويبلغ هذا الحد عندهم 1 : 10 وعلى يمينه 150 صفراً (9). وهذا يعني أن احتمال أن تكتب القردة قصيدة لشكسبير من أبعد المستحيلات، فما بالك بتكوين الخلية الحية عن طريق الصدفة المحضة. لقد أحال هذا الطرح "برهان القردة" إلى كومة من النفايات، حسب تعبير أنطوني فلو.

وليست هذه هي المرة الأولى التي جرب فيها حساب الاحتمالات لإثبات استحالة حدوث الخلق عن طريق المصادفة. فقد أجرى عدد من علماء القرن الماضي تجارب مماثلة وانتهوا إلى النتيجة نفسها. منهم الرياضي السويسري الشهير تشارلز بوجين جواي، الذي حاول استخراج المدة الكافية لإيجاد "الجزيء البروتيني" عن طريق المصادفة، والبروفيسور ج. ب. ليتز، الذي أجرى محاولة شبيهة حول سلاسل الأحماض الأمينية المكونة لجزيء البروتين، فكانت النتيجة لديهما هي الاستحالة التامة. كما أكد العالم الفرنسي "الكونت دي نواي" على أن مقادير الوقت، وكمية المادة، والفضاء اللانهائي، التي يتطلبها حدوث مثل هذا الإمكان هي أكثر بكثير من المادة والفضاء الموجودين الآن. وأكثر من الوقت الذي استغرقه نمو الحياة على ظهر الأرض، ويرى أن حجم هذه المقادير التي سنحتاج إليها في عمليتنا لا يمكن تخيله أو تخطيطه في حدود العقل الذي يتمتع به الإنسان المعاصر، فلأجل وقوع حادث على وجه الصدفة – من النوع الذي ندعيه – سوف نحتاج كوناً يسير الضوء في دائرته ما يعادل 10 وإلى جانبها 82 صفراً من السنين الضوئية!. وبتعبير طريف يقول عالم الأعضاء الأمريكي مارلين كريدر: إن الإمكان الرياضي في توفر العلل اللازمة للخلق عن طريق الصدفة في نسبها الصحيحة هو ما يقرب من "لا شيء"! (10).

إن هذه النتائج تجعل من المناسب أن نختم هذا المقال بعبارة بيتر كريفت، أستاذ الفلسفة بجامعة بريغر حيث قال: وجود الإله لا يتطلب إيماناً أعمى بلا دليل – كما يزعم الملحدون - الإلحاد هو الذي يتطلب إيماناً أعمى. تحتاج إيماناً أعمى لتؤمن أن كل شيء جاء من لا شيء، لكنك تحتاج عقلاً وفكراً لتؤمن بأن كل شيء جاء من الله!.




________
- المراجع:
(1) : كتاب عباس العقاد بين اليمين واليسار – تأليف رجاء النقاش.
(2) : ظهرت علاماته في كتاب: الشعر الجاهلي.
(3) : حسب شهادته في كتاب: مصر بين عهدين.
(4) : في كتابه: خرافة الميتافيزيقا.
(5) : كتاب العلم في منظوره الجديد – سلسلة عالم المعرفة.
(6) : كتاب الجديد في الأنتخاب الطبيعي – ريتشاردز دوكينز – ت: مصطفى فهمي.
(7) : كتاب الإسلام يتحدى – وحيد الدين خان.
(8) : كتاب رحلة عقل – عمرو شريف.
(9) : كتاب رحلة عقل – عمرو شريف.
(10) : كتاب الإسلام يتحدى – وحيد الدين خان.
مشاركة WhatsApp

المنشورات ذات الصلة